٢٦‏/١١‏/٢٠١١

لا أحبّ فيروز



أقول لنفسي إنني لم أكن على هذه الحال من قبل..ماذا جرى؟ كيف أصبحت هكذا؟...أبحث أبحث فأجد، لكن فهم السبب لا يبطل إلا العجب، أما الواقع فلا يكفي فهمه لإبطاله. وأنا أريد العودة إلى واقعي القديم، عندما كنت مثل أي لبناني طبيعي، في الغربة أو على أرض الوطن الغالي العزيز اللذيذ..عندما كنت...أحبّ فيروز.

يومها قررت أن أعالج إدماني، أن أواجهه. وبما أنني كنت حينها أعاقر مليار نوع من الإدمان، قررت أن أبدأ بالكلمات. الكلمات التي اعتدت على تكرار استخدامها دون غيرها، محوتها واحدة تلو الأخرى. لأنها لم تكن منّي، كانت مما دخل في أذني من قبل، عندما كنت لا أمتلك قدرة اختيار ما يدخل أذني وما أمنعه من الدخول. غريب التشابه بين الأفكار على عتبة أذن، والمصطفين على باب ناد ليلي للرقص، عليهم أن يجتازوا عتبة الغوريلا المنتفخة، حارس المعبد، من يمتلك سلطة الصدّ والقبول...

المهم...بعد الكلمات، جاء دور المفاهيم....هل أفهم من إعلانها حبها لي، ما أفهمه أنا عن معنى الحب، أو ما تفهمه حي؟ حتى الله، مفهوم. مصطلح. أعدت القراءة بالكلمات الجديدة، ففهمت أن المعاني احتمالات لا ثوابت...وحين تسقط المفاهيم، تسقط الانتماءات الضيقة..والانتماء ذوق. والذوق في كلّ شيء، من لون السماء في منتصف الخريف إلى شكل الرمز المقدس. مرورا بفيروز.

عندما تتعرى من الانتماءات، تبرد ذاتك، حتى ترتجف الأنا. ترتجف حتى يتوقف قلبها. عندها تخرج من الأنا، فتبني أول جسر مع الكلّ.

أريد أن أحب فيروز، ولكنّ هذا يعني أن أعود إلى الأنا، وأبحث في انتماءات خلعتها عن مبرّر لحبّ شيء، لم أذكر أنني اخترت يوماً أن أحبّه....

لا...سأبقى على حالي...وأصبر...والله مع الصابرين.

١١‏/١١‏/٢٠١١

حفلة في الحرم



الملايين الملايين. حول كعبة تعلوها مكبرات الصوت العملاقة. رداؤها الأسود تحوّل إلى شاشات عملاقة تبث صورا من شوارع غزة والقاهرة وبغداد وحمص ومراكش وتونس وبيروت والجزائر وكل بلاد العرب، للحشود المشاركة عبر البحار في هذا الحدث العملاق. حدث انتصار الثورة العربية. من القدس إلى مكة. كان آخر خط مستقيم في سقوط الأصنام. بعد إعلان الدولة الفلسطينية على كامل التراب من البحر إلى النهر، توجهت أمواج الثورة العاتية لتحتفل بانتصارها في مكة المحررة من كل من أسرها يوما.

الموسيقى هي العنوان. وفي يوم الاحتفال بالثورة، اجتمع من العرب أفضل الثائرين في موسيقاهم، بالإبداع والتفاعل. الحشود هنا من كل بقاع الأرض لاحياء انتصار الثورة التي أسقطت معها معابد الذهب. لا سلاح هنا. ولا بطاقات هوية. لباس الحفلة الأبيض. أفواج من الأجساد المتراقصة مع الايقاعات التي تخرج من المكبرات السوداء مزلزلة جدران الجبال والتلال المحيطة. الابتسامات، لا غيرها على الوجوه.

سمار البشرة العربية يطغى على خريطة النساء حول الكعبة العربية في هذه الليلة المكتملة البدر. عيون سوداء، ينحبس الضوء بين جفن الناظر إليها وعمقها. أجساد تخطف الموسيقى من أذنيك إلى تماوج تضاريسها. هذه بنت النوبة، وتلك بنت حلب. هذه بنت اليمن، وتلك بنت وهران. هذه بنت الحجاز وتلك بنت الكاف. هذه بنت نواكشوط وتلك بنت رام الله. 

منام سعيد. حلم أبني من فوقه حياة.

٠٣‏/١١‏/٢٠١١

الأنبياء الغرباء




قطّع الصورة:

عبقرية الأنبياء في تفاهة "الكفار". محمد في قريش، عيسى في اليهود، موسى في دولة فرعون، نوح في قومه، لوط في قومه، وكلهم بلا استثناء، مرايا ما يحيط بهم. 
لو لم تكن سدوم وعمورة ممتلئتين ب"الفواحش" و"الخطايا"، لما كان لوط في قومه نبيا. 
لو لم يكن من طوفان ينتقم من "الذين عاثوا في الأرض فسادا"، لما كان نوح وسفينته.
لو لم يكن العرب قبائل تتناحر في ما بينها وتخدم أسيادها من روم وفرس، لو لم يكن سادة قريش من عبيد الدرهم والنبيذ والجنس، ظلّام الفقراء والمساكين، لما كان محمد موحّد العرب، تارك الخمرة، الزاهد في أمور الدنيا (إلا الجنس...معليش)، المنصف للفقراء، الذي حوّل عبداُ اسمه بلال إلى "صوت الأمة"، "مؤذن النبي".

كلهم، هؤلاء الأنبياء، كانوا يحسون بغربة في محيطهم، كلهم كانوا يتكلمون عن اقتراب "اليوم الآخر" و"نهاية العالم" والجنة والنار. منهم من أبدع في السياسة فقاد "أمته"، ومنهم من حمى نفسه بالعشق ف"تغلب على الموت"، أو تصالح مع الانتحار. منهم أيضا من لجأ إلى الطبيعة بنباتها وحيوانها، حتى ألفها وألفته، وأيضا من شغل جسده بالمرض فأراح عقله. 

موسى، عيسى ومحمد. هؤلاء الثلاثة تجمعهم تجربة مشتركة، الوحدة في الصحراء. بل هي حتى نفس الصحراء إذا اخذنا في الاعتبار امتداد الجزيرة العربية.

الآن ألصق الأجزاء حسب خطوط المنطق:

لغربة الإنسان بين قومه، شرط لا تقوم من دونه: أن يكون قد شكّل لنفسه وعياً مختلفاّ عن الوعي الجماعي المحيط به. في حالة أصدقائنا الأنبياء، كان هذا الوعي مرتبطا دائما ببعد فلسفي، بإحساس دفين بتفاهة الحياة، بإحباط سحيق، حتى أن منهم من أمضى حياته باحثا عن الموت فقال خلال بحثه جملا لعوبا بقيت في ذاكرة الناس. في حالة البعض تحوّل اختلاف الوعي عن الجماعة إلى جنون العظمة أو ال"ميغالومانيا"، وفي بعض الأحيان في ظل المعادلة الاجتماعية المناسبة، تمكن هؤلاء من تجسيد جنونهم بالعظمة والوصول إلى سدة القيادة فعلا، فبدأ هناك الامتحان الحقيقي وأثبتت تركتهم السياسية أنها أغزر بكثير من موروثاتهم الأخلاقية.

المهمّ أن النبي غريب، وأنا أعرف كيف يكون الغرباء، خرجوا عن رؤية "الواقع الواحد"، وحرروا أنفسهم من المتعارف عليه، ليطلقوا العنان لسوريالية شاعرية فلسفية عاطفية تأسر العقول والألباب. أنا أعرف غرباء بين قومي، قد أخذتهم الغربة إلى واقع جديد ترفرف فيه أجنحة الملائكة وتشّع وجوه "الأتقياء" فيه بأنوار لا تراها سوى "عين المؤمن". هم يروها، وأنت لا تراها، "لأنك لم تدرك بعد"، ثم يبتسمون في وجهك ابتسامة بلهاء ويدعونك إلى "صدر الايمان". لا يفاجئني ذلك! أنا أعلم أن العقل قادر على خلق عوالم لا تنتهي، إذا ما قام بخطوة الخروج عن العالم المتعارف عليه. العباقرة بين هؤلاء الغرباء، من يمدون جسرا بين عوالم غربتهم والواقع كما يعيشه قومهم، فيفتحون أبوابا للمتألمين في الداخل المألوف. إذا كثر المتألمون، يصير الغريب نبيا.

لكن القوم لم ينسوا أنه غريب. صار نبيا، نعم. لكنه بقي غريبا. لذلك ومهما قلنا فيه المدائح والصلوات، وأخذنا عنه الكلام وأعدنا إليه السلام، فسنمرّغ أنفه في كلّ بقعة من قذارتنا، وسنزّج لحيته في كلّ غباء من جهالتنا، وسنرسم وجهه بالدماء على أنصال سيوف نقتل فيها بغير حقّ. كلّ نبيّ سنقدسه، سنمجده، سنخلع عنه صفات البشر...عندها نحنّطه، نعلقه تمثالا في الوزارات والدوائر الرسمية، نحرك شفتيه، ونقول ما نريد. نعلّق اسمه على الجدران، لنحكم باسمه. وهو...عاش غريبا ومات غريبا.