٢٥‏/٠٨‏/٢٠١١

مغالطة الزجاج المكسور: الحرب لإنقاذ الاقتصاد


كتب مازن السيّد في "السفير":

في كتاب صدر في العام 1946 بعنوان "الاقتصاد في درس واحد"، يفسر الباحث الاقتصادي الاميركي هنري هازليت ما يسمى ب"مغالطة الزجاج المكسور". ويوضح الكاتب أنه إذا قام أحدهم برمي حجر على زجاج واجهة محل تجاري، سيظن الناس أن في ذلك منفعة اقتصادية ما، كون صاحب المحل سيضطر إلى شراء زجاج جديد ب250 دولارا مما سيعطي دفعا لصانع الزجاج الذي لولا الحادثة لما كان باع منتجاته. لكن هازليت يوضح المغالطة في هذه القراءة، مفسرا أن صاحب المحل التجاري كان في البداية يمتلك واجهة سليمة و250 دولارا كان بإمكانه استثمارها في أي قطاع آخر من اختياره، أما بعد الحادث فلا يمتلك سوى زجاج واجهة المحل.

"مغالطة الزجاج المكسور" هذه لا تأتي من موقع أخلاقي عشوائي. فللوصول إلى خلاصة بأن انهيار الزجاج كان مفيدا للدورة الاقتصادية، كان من الضروري التركيز على مصلحة بائع الزجاج في الدرجة الاولى. بمعنى آخر، إذا كان بائع الزجاج هو من يقيّم الفائدة الاقتصادية للاعتداء على الواجهة، فمن الطبيعي أن يرى فيه منفعة كونه المستفيد الأول من ذلك.

هكذا تبدو المعادلة الاقتصادية الحربية في ليبيا اليوم من المنظار الغربي، لأنه من ضروب السذاجة القصوى الافتراض أن أي نوع من المثالية الاخلاقية يقف وراء العملية العسكرية للحلف الأطلسي. ألم يكن رئيس الوزراء الايطالي سلفيو برلوسكوني قبل أشهر معدودة، يحسب بين أعزّ أصدقاء معمر القذافي، حتى وصلت به الأمور إلى تقبيل يده خلال اجتماع لمجموعة الثماني في روما؟ والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ألم يكن هو عرّاب عودة ليبيا إلى "أحضان المجتمع الدولي" خلال العقد الماضي، حتى أرسل زوجته حينها إلى ليبيا للتفاوض على مصير الممرضات البلغاريات، وعقود ال"رافال"؟ ألم تكن اوروبا تعلم حينها أن القذافي "ملك الملوك"، ديكتاتور دمويّ يسحق شعبه؟

إذن، هي البراغماتية البحتة التي يجب أن تكون في الميزان عند دراسة المصلحة الغربية والأوروبية تحديدا في ليبيا: الاقتصاد والسلطة السياسية. لكن السلطة السياسية نفسها كعنصر أساسي في هذا السياق، تعيد المراقب إلى خانة الاقتصاد، فشعبية ساركوزي في بلاده (او باراك اوباما)، على سبيل المثال لا الحصر، ترتبط ارتباطا جوهريا بقدرته على مواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة. وبالعودة إلى هازليت، يؤدي صانع الحروب الغربي، أي الحلف الأطلسي، دور المعتدي على الواجهة الزجاجية، وهو المرسل مباشرة من عواصم الأزمة الاقتصادية في اوروبا وأميركا، التي تعاني من أزمة خانقة في "تجارة الزجاج" التي تمتهنها. "بائع الزجاج" الأوروبي  هو المستفيد والمعتدي، وهو الذي يؤكد "منافع" الاعتداء.

يشكل النفط بالتأكيد عنصرا بارزا في معادلة العائد الاقتصادي الغربي، مقابل الاستثمار الحربي. ومهما كانت طبيعة الحكومة المقبلة في ليبيا، فستكون محتاجة وبسرعة إلى سيولة كبيرة، وستضطر لذلك إلى ضخ أكبر كميات ممكنة من النفط لاستثمار عائداته في عملية "إعادة الإعمار". سيزيد ذلك العرض العالمي في السوق النفطية ويضغط على الأسعار انخفاضا. حتى أننا رأينا الأسواق تستبق ذلك منذ الإثنين الماضي مع دخول الثوار إلى طرابلس تحت غطاء "الناتو".

لكن الأمور تتعدى ذلك إلى عمق النشاط الاقتصادي العالمي الذي بات متعثرا نتيجة أزمة الديون المنتشرة من أثينا إلى واشنطن. الثمن الحقيقي الذي سيتقاضاه الاقتصاد النيوليبرالي الغربي كعائدات استثماره بضع مليارات الدولارات (مليار من أميركا و300 مليون بريطانيا وما يعادل ذلك من فرنسا) في الجهد الحربي، هو سوق اقتصادية جديدة حيوية على بعد كيلومترات قليلة إلى جنوب اوروبا. فبين العامين 2003 و2008 شهد شمال افريقيا نموا للناتج المحلي بمعدل 5 في المئة سنويا كما يؤكد تقرير لمصرف "دويتشبنك" الألماني.

ولأن ليبيا لا تعدّ أكثر من 6.4 ملايين نسمة، فبإمكانها في المرحلة المقبلة أن تبقي على مستويات ضريبية منخفضة، بفضل العائدات النفطية. ومع دخول المؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي الذي أعلن في يوم دخول الثوار طرابلس، أنه سيقدم "مساعدات" مالية للحكومة الليبية المقبلة، ستدخل ليبيا في نمط الاستهلاك النيوليبرالي، وتساهم في إعادة إطلاق حلقة الانتاج الغربية التي تضيق أمامها منافذ تصريف الانتاج، في ظل معدلات نمو غربية ضئيلة أو سلبية، وفي مواجهة عملاق التصدير الصيني.

6 ملايين ليبي لا يشكلون بطبيعة الحال قصارى الطموح الأوروبي. لكننا إذا أضفنا إليهم التونسيين والمصريين الذين تشهد بلادهم حاليا محاولات مماثلة للتطبيع الاقتصادي الكامل مع النظام المالي العالمي، فسيحصل الغرب على سوق من 100 مليون مستهلك، تتراوح أعمار حوالي 20 في المئة منهم بين 15 و24 عاما. ويقول الصحافي البريطاني ماثيو لين "إذا فتحت منطقة شمال افريقيا أبوابها، فستخلق سوقا واسعة جديدة، ومصدرا ضخما لليد العاملة (الرخيصة) على أبواب اوروبا".

ويرى المستثمرون كذلك فرصا في قطاع المصارف والتأمين في ليبيا الذي تمتع بإقبال من جانب مستثمرين أجانب لفترة وجيزة بعد رفع عقوبات غربية عن ليبيا في العام 2004.  واشترى بنك "بي ان بي باريبا" الفرنسي حصة في أحد أكبر البنوك الليبية بعد
تخفيف القواعد المنظمة للبنوك، لكن امتداد اليد الاوروبية في سوق المال الليبية تراجع بعد خطوات سلبية ازاءها من قبل نظام القذافي انطلاقا من العام 2009-2010.

يذكر أيضا أن المصرف المركزي الليبي هو آخر 4 مصارف مركزية في العالم غير مخصخصة، بمعنى أنها تحافظ على استقلالية في إصدار المال والتحكم بمعدلات التضخم وحجم الكتل النقدية. وقد أعلن معارضو بنغازي غداة انطلاق انتفاضتهم تأسيس مصرف مركزي جديد في بنغازي، سيرث عن سلفه 143.8 طنّا من الذهب، في حين تصل أسعار الذهب إلى مستويات قياسية مع حوالي 1800 دولار للأونصة، ومن المرجح أن ينصاع بعكس سلفه ل"حتميات" النظام المالي العالمي.

دخول ثوار ليبيا إلى طرابلس وضع حدّا للانزلاق المتواصل لسوق الأسهم الأوروبية، كما أشاح نظر التقارير الإعلامية عن ازمات الديون، ومن المعلوم تأثير هذه التقارير على معنويات المداولين في الأسواق. لكن المصلحة الاقتصادية الاوروبية في ليبيا تتعدى الحركة الآنية لسوق الأسهم، إلى محاولات الخروج من ازمة النظام النيوليبرالي الذي لم يعدّ يستطيع التعويل على نموه الداخلي لمعالجة ديونه، وأصبح في أمس الحاجة لأسواق جديدة.

"بائع الزجاج" يتحكم بالمنابر الإعلامية الكبرى، فتغطي على جرائم ال"ناتو" في ليبيا وعلى طموحاته العسكرية الساعية وراء تأمين طموحات دوله الاقتصادية، لتركز على الصورة الثورية الداخلية، التي لا جدال في أحقية قيامها في وجه ديكتاتور كالقذافي.

لو كان هذا الإعلام موجودا أيام "الثورة العربية الكبرى" إبان الحرب العالمية الأولى، لكان ركّز أيضا على انتصارات الثوار في معاركهم مع الجيوش العثمانية، وتناسى الإشارة إلى أن جيوش اوروبا سبقتهم إلى دمشق...




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق